كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ عيسى بن عمر {وَّلاَتَ حِينَ} بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني:
طلبوا صلحنا ولات أوان ** فأجبنا أن لات حين بقاء

وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه، وإما على إضمار من كأنه قيل: لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك أي من جذع في أصح القولين، وقولهم:
ألا رجل جزاه الله خيرًا

يريدون ألا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعًا على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائمًا، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل: أن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه باذ في قول أبي ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمرو ** بعاقبة وأنت إذ صحيح

ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الأصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر للالتقاء الساكنين لكونه مبنيًا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرها للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانًا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعًا عن الإلحاق بها فإنها تبني إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضًا فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين هاهنا تشبيهًا باذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل {مَنَاصٍ} على أوان في البيت تنزيلًا لما أضيف إليه الظرف وهو {حِينٍ} منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافًا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بنى ما أضيف إليه وهو {حِينٍ} على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضًا وتقديرًا وهو {مَنَاصٍ} المشابه لأوان.
وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروى عن عيسى {وَّلاَتَ حِينَ} بالضم {مَنَاصٍ} بالفتح، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فلعله بني {حِينٍ} على الضم تشبيهًا بالغايات وبني {مَنَاصٍ} على الفتح مع {لأَتٍ} وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون {حِينٍ} معربًا مضافًا إلى {مَنَاصٍ} والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى: {وَعَجِبُواْ} [ص: 4] نظير فتح الراء من غير في قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أرقال

على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة.
وقرأ عيسى أيضًا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء {لأَتٍ} وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه، والفراء وابن كيسان والزجاج: يوقف عليها بالتاء، وقال الكسائي: والمبرد بالهاء، وقال أبو علي: ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء؛ وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة، وذكر أنه رأى في الإمام {وَلاَ حِينَ مَنَاصٍ} برسم التاء مخلوطًا بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسومًا على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال السخاوي في شرح الرائية: أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون: اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله:
العاطفون تحين لا من عاطف ** والمطعمون زمان ما من مطعم

وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأول اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم: إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فأبدلت ألفًا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس، وقيل: إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه، والمناص المنجا والفوت يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، وقال الفراء: النوص التأخر يقال ناص عن قرنه ينوص نوصًا ومناصًا أي فروزاغ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسًا له:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه ** بيدي استناص ورام جرى المسحل

وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال: المعنى نادوا واستغاثوا طلبًا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة؛ وعن مجاهد تفسيره بالفراء، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: اخبرني عن قوله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقال: ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى:
تذكرت ليلى لات حين تذكر ** وقد بنت عنها والمناص بعيد

وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص فقال الله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار، وقال أبو حيان: في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرًا مثل جاء زيد راكبًا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى: {فَنَادَوْاْ} انتهى.
وكون الأصل ما ذكر أن {حِينٍ} ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لاسيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك.
{وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ} حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أنجاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي، والمراد أنهم عدوا ذلك أمرًا عجيبًا خارجًا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه {وَقَالَ الكافرون} وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبًا عليهم وذمًا لهم وإيذانًا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {هذا ساحر} فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلًا {كَذَّابٌ} فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال.
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرًا في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد إلهتهم معه عز وجل في الوجود {إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} أي بليغ في العجب فإن فعالًا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبًا بل محالًا، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علمًا وقدرة، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25].
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى وابن مقسم {عُجَابٌ} بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف، وقال مقاتل {عُجَابٌ} لغة أزد شنوءة.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جعفل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشى أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرًا قال؛ لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب.
وفي رواية أنهم قالوا: سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام: «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقاموا غضابًا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا» {وانطلق الملأ مِنْهُمْ} أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال: قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هم الملأ وتلا {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس، و{إن} مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالًا من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول، وقال بعضهم: المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلًا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا، وقيل: هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال أسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم.
وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشي إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد، وأيًّا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم، وقرئ {امشوا} بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا {وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ} أي أثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وقرأ ابن مسعود {وانطلق الملأ مِنْهُمْ يَمْشُونَ إن اصبروا} فجملة {يَمْشُونَ} حالية أو مستأنفة والكلام في {إن اصبروا} كما في {أَنِ امشوا} سواء تعلق تعليق بانطلق أو بما يليه {إِنَّ هَذَا لَشَىْء يُرَادُ} تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي ألوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى الله عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إراتكم واصبروا على عبادة آلهتكم، وقيل: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر، وقيل: إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يرده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمنتاه أو يريده فاصبروا، وقيل: أن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد إبطاله، وقيل: الإشارة إلى الصبر المفهوم من {اصبروا} أي أن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة.
وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل.
{مَّا سَمِعْنَا بهذا} الذي يقوله: {فِى الملة الآخرة} قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب ومقاتل أرادوا ملة النصارى، والتوصيف بالآخرة بحسب الاعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومرادهم من قولهم ما سمعنا الخ إنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وعن مجاهد أيضًا وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم، وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالًا من اسم الإشارة لا متعلقًا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنًا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور، وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ اختلاق} أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له.
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي القرآن {مّن بَيْنِنَا} ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ومرادهم إنكار كونه ذكرًا منزلًا من عند الله تعالى كقولهم {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي {بْل هُمْ في شَكّ مّن ذِكْرِى} من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الاختلاق أخرى فبل للإضراب عن جميع ما قبله، وبل في قوله تعالى: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى: {أَءنزِلَ} الخ وحديث الشك في قوله تعالى: {بْل هُمْ في شَكّ} أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكري، والأول على ما في الكشف هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات، وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع. اهـ.